* سورة نوح مكية، شأنها شأن سائر السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة، وتثبيت قواعد الإِيمان، وقد تناولت السورة
تفصيلاً قصة شيخ الأنبياء "نوح" عليه السلام، من بدء دعوته حتى نهاية حادثة الطوفان، التي أغرق الله بها المكذبين من قومه،
ولهذا سميت "سورة نوح"، وفي السورة بيانٌ لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله، وبيان لعاقبة المرسلين،
وعاقبة المجرمين، في شتَّى العصور والأزمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بإِرسال الله تعالى لنوح عليه السلام، وتكليفه بتبليغ الدعوة وإِنذار قومه من عذاب الله
{إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنْذِر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم}.* ثم ذكرت السورة جهاد نوحٍ، وصبره، وتضحيته في سبيل تبليغ الدعوة، فقد دعا قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً،
فلم يزدهم ذلك إلا إِمعاناً في الضلال والعصيان
{قال ربِّ إني دعوتُ قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}.* ثم تابعت السورة تذكّرهم بإِنعام الله وإفضاله على لسان نوح عليه السلام، ليجدّوا في طاعة الله، ويروا آثار قدرته ورحمته
في هذا الكون
{ألم تروا كيف خلق الله سبع سماواتٍ طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً *
واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً}! !
* ومع كل هذا التذكير والنصح والإِرشاد، فقد تمادى قومه في الكفر والضلال والعناد، واستخفوا بدعوة نبيهم نوح عليه السلام
حتى أهلكهم الله بالطوفان
{قال نوحٌ ربِّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده مالُه وولده إلا خساراً ومكروا مكراً كُبَّاراً وقالوا
لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذرنَّ وداً ولا سُواعاً ..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بدعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار، بعد أن مكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم
إلى الله، فما لانت قلوبهم، ولا انتفعت بالتذكير والإِنذار {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً *
إنك إنْ تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً * رب اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات
ولا تزد الظالمين إلا تباراً}.
* * *قصة نوح مع قومه :{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُون ِ(3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(4)}{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إلى سكان جزيرة العرب،
قال الألوسي: واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل
{أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم، وهو عذاب الطوفان في الدنيا،
وعذاب النار في الآخرة
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي فدعاهم إلى الله وقال لهم: إني لكم منذر،
موضح لحقيقة الأمر، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة، قال المفسرون: نوح عليه السلام أول نبي أرسل،
ويقال له: شيخ المرسلين، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم {ألف سنة إلا خمسين عاماً} يدعوهم إلى الله،
ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى "سورة نوح"
من بدء الدعوة إلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة "نوح،إبراهيم، موسى،
عيسى، محمد" صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان،
واكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً عليه السلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه،
وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم التي حصلت
قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده
{وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد، قال المفسرون:
المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم
ولا يتأخر {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ولهذا قال بعده
{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ}أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته
{لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان.
شكوى نوح إلى ربه، ومعاناته مع قومه :{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاق
(15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا(17)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا (20)}^
^
يتبع.,